بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 8 نوفمبر 2024

توبة الثعالب

 توبة الثعالب 

الإنسان بطبعه متمرد و جاحد .. حاقد و حاسد .. ماكر و غادر … ينسى و يتناسى .. يطغى تارة و يضعف تارة أخرى .. طماع و قنوع .. طماع عندما يمتلك الأشياء حتى و إن لم يكن بحاجة إليها .. و يقنع عندما لا يجد حيلة أو طريقة للحصول على الأشياء .. القليل من البشر من تجد بداخله قناعة حقيقية … و هؤلاء من أكرمهم الله بالتقوى … و كذلك من أرشدهم لطريق الهداية و التوبة الحقيقية … فالإنسان إذا اتيحت له الفرصة للخيانة لاستجاب لها فورا بدون تفكير … في زمن أصبحت فيه العبادات عادات و التمسك بالفضيلة أشبه بالتمسك بقشة عند الغرق .. و لولا غريزة الخوف التي خلقها الله بداخلنا لأصبح كل شئ مباح و مستباح .. لولا القوانين الإلهية و الضوابط الشرعية و أيضا قوانين البشر لأصبحت الحياة كلها فوضى … لأن الإنسان دائما ما تثور بداخله رغباته و شهواته لفعل كل شئ بدون قيود و بالطبع بدون حساب من الله او من البشر … و قصة خلق آدم و حواء أكبر دليل على ذلك .. هناك من يتوب بنية خالصة لله برغم الطرق المتاحة له لفعل المعاصي و الذنوب .. و هناك من يتوب لأنه لم يملك طريقا آخر سوى ذلك .. فهناك فرق كبير من يعبد الله حبا في الله و من يعبد الله طمعا في الجنة .. و هذا ما يسمونه العشق الإلهي هو حب الله لذاته و ليس للخوف أو الطمع في شئ ما … التوبة برغم أن الله أمرنا بها و هي محمودة في كل الكتب و الرسائل السماوية إلا أن البعض ضل طريقه في الوصول إليها .. التوبة هي طوق النجاة من كل ذنب و هي الفرصة الأخيرة لكل معصية سواء كانت مؤقتة أو مزمنة كإدمان الشهوات و الملذات المحرمة … التوبة حبل رفيع يربط بين العبد و ربه قد يشتد كلما كانت التوبة خالصة لله .. و هي منبه الذاكرة عند كل فعل و تكرار التوبة بتكرار الأفعال إلى أن يقضي الله بما يشاء خاتمة الإنسان … في كل الأحوال التوبة هدية من الله لمن يحبه و يهديه إليها و لسبيل الرشاد .. 
و ها هو صاحبنا رجل في العقد الرابع من العمر لم يتزوج بعد كبعض الشباب الذين فقدوا الرغبة في الزواج إما لقلة الحيلة أو للعزوف التام عن تحمل المسئولية و القيود الحياتية كما يظن هو و غيره .. قضى ما مضى من عمره بين اللعب و المزح مع أصحابه و قضاء يوم بيوم .. لم يدرك أبدا مسئولية أي شئ و الحياة بالنسبة له ما هي سوى متعة يجب أن يعيشها و يتمتع بكل لحظاتها .. هو رجل وسيم قمحي البشرة متوسط الطول متمرد دائما على جميع ما حوله .. يعمل بمجال التجارة لدى أحد أقاربه .. كل يوم ينتهي من عمله و يذهب إلى رفاقه الذين يشبهونه كثيرا يقضون الليل في لعب و سخرية من كل شئ .. و ذات يوم كعادته رجع إلى البيت منتشيا مترنحا كأنه فراشة تعبت من كثرة الطيران و باتت هامدة دخل إلى غرفته التي تعاني كثيرا من الفوضى كمعظم غرف العازبين .. ألقى بنفسه على السرير بملابسه كما هي و قام فقط بفك أزرار قميصه ببطء شديد .. و راح يتكأ على وسادته في حالة هسترية من الضحك و كأنه في غيبوبة الفوضى لدرجة أنه نسى أن يخلع حذائه .. ثم صمت قليلا متأملا في أرجاء غرفته .. يتأمل صوره القديمة على الحائط و مرآة خادعة بالجوار و مجموعة من الكتب المتسولة على الرفوف … و ساعة حائط صامتة … و كرسي وحيد يعاني من العزلة عليه سجادة الصلاة التي لم يستعملها كثيرا … و في لحظة التأمل هذه وجد ” مصحف ” فوق منضدته .. يكسوه التراب .. فظل متأملا في رؤيته حتى انتفض فجأة من مكانه و قام بتنظيف التراب من عليه .. و كأن ذرة الإيمان بداخله تحركت قليلا .. و وضعه جانبا كما هو .. أخرج سيجارة من علبة سجائره فأشعلها في هدوء … و بدأ يفكر .. و كأن وحي ما يتبادل معه الحديث بل و هو وحي الضمير الذي عانى من غفلته فترة طويلة ها هو بدأ يوقظه من سبات نومه … و شريط الذكريات يمر أمام عينيه و كأنه قام بفتح صندوق الذكريات الكامنة البائسة بداخله .. في لحظات قليلة تذكر أن هناك حساب و عقاب أن هناك موعد ينتظره و تذكر كل ذنب اقترفته نفسه .. ذنب يليه ذنب .. غنحن دائما عندما نرتكب معصية نتذكر ما قبلها و قبلها .. و كانت أهم هذه الذنوب هو ذنب السرقة .. فهو اعتاد دائما ان يسرق من صندوق النقود في عمله الذي من المفترض أن يكون مؤتمن عليه و كلما كرر فعلته استغفر و تاب ثم يعود مرة أخرى إلى أن أصبحت عادة بررها لنفسه بأنها من حقه و أنها مجرد ذنب لن يضر في شئ .. و في إحدى الأيام قرر أن يضاعف من المبلغ الذي اعتاد أن يسرقه و كانت النية لديه قبل أن يذهب إلى عمله .. و في هذا اليوم وجد صاحب المتجر قام بتكليف أحد موظفيه بمسئولية الصندوق و كلفه هو بعمل آخر .. حسب حاجة العمل في هذا اليوم .. فجلس يفكر و يحدث نفسه لكي يرضيها بأن يحمد الله لأنه لم يسرق و أنها توبة أخيرة .. برغم تناقض مشاعره .. فهل أعلن توبته لأنه حقا يخاف الله أم لأنه لم يجد ما يسرقه ..و هكذا يحدث نفسه .. ظل في هذه الحالة بداخل غرفته بضع دقائق يفكر كثيرا بعمق أكثر … ذنوب تراوده آثارها في نفسه سرقة و ترك صلاة و هكذا و ما خفي كان أعظم … و عندما تملكه الخوف قام منكسرا فجلس القرفصاء على السرير و وضع يديه على رأسه و كأنه ينتحب حتى ملأت عينيه الدموع و زاد في البكاء .. فقام مفزعا و توضأ لكي يصلي حتى استكانت روحه بعد الصلاة و راح ينام كطفل صغير بروح نقية طاهرة … و في الصباح قام متفائلا مبتهجا بتوبته و ذهب للعمل و جلس في نفس المكان بجانب صندوق النقود .. و طيلة الوقت تراوده نفسه بعل السرقة و هو يقاوم .. و بعد فترة من التردد الأعمى استسلم كالعادة و أخذ النقود و حاول مرارا أن لا يفكر فيما فعله و كأته فاقدا للوعي … و تكرر نفس الروتين اليومي .. و هكذا …..حقا إنها توبة ثعالب .. مكر و حيلة على النفس … التوبة تاج على الرؤوس كلما نزعته تعرت رأسك و تلوثت بغبار الذنوب .. التوبة ثوب العفة و التقى و خاتم العرس الأخير في حياتك … إذا أردت أن تتوب … فاجعل توبتك محبة لله و تقديرا لذاتك و ليس من أجل الخوف فقط .. فالذنوب كثيرة و لكن التوبة واحدة فقط … فاجعل بينك و بين الله حبل لا ينقطع أبدا .. لأنه لو انقطع لخرجت من رحمته و غرقت في بئر الشياطين .. فلا تمكر و لا تتحايل في توبتك فالله خير الماكرين .. اجعل توبتك توبة إنسان بروحك أولا ثم بنفسك … اجعلها توبة صادقة لله .. و لا تكن مجرد توبة ثعالب ….

د/ هاني الجبالي


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق